تبليسي – مراسل خاص
في مشهدٍ استعاد صور "ثورات الشارع" التي عرفتها أوروبا الشرقية خلال العقدين الماضيين، اندلعت اليوم السبت احتجاجات حاشدة في العاصمة الجورجية تبليسي، تزامناً مع الانتخابات البلدية التي تجري في أجواء مشحونة بالاتهامات والتوترات السياسية.
آلاف المتظاهرين، أغلبهم من أنصار المعارضة والمجتمع المدني، احتشدوا في ساحة الحرية وسط العاصمة، رافعين الأعلام الجورجية وأعلام الاتحاد الأوروبي، في تظاهرة وصفها منظّموها بأنها “صرخة لاستعادة الديمقراطية”.
احتجاجات تتحول إلى مواجهة
مع تقدم ساعات النهار، تحوّلت التجمّعات السلمية إلى مواجهات عنيفة بين المتظاهرين وقوات الأمن قرب القصر الرئاسي (Orbeliani Palace)، حيث حاولت مجموعات من المحتجين اختراق الطوق الأمني والوصول إلى بوابة القصر في خطوة رمزية احتجاجاً على “اختطاف الدولة من قبل الحزب الحاكم”.
وردّت الشرطة باستخدام خراطيم المياه والغاز المسيل للدموع لتفريق الحشود، بينما أظهرت صور بثّتها وكالات الأنباء وقوع إصابات بين الجانبين، وأعلنت وزارة الداخلية لاحقاً أن 27 شخصاً نُقلوا إلى المستشفيات، بينهم عناصر من الأمن.
“نحن هنا لأننا نرفض أن تُختطف بلادنا. نريد أن تعود جورجيا إلى طريق الحرية والاتحاد الأوروبي”،
قالت نينو دزانيشفيلي، إحدى المتظاهرات التي شاركت في احتجاجات تبليسي منذ عام 2024.
أزمة ثقة في الحكم
تأتي هذه التطورات في وقتٍ تعيش فيه جورجيا واحدة من أعقد أزماتها السياسية منذ أكثر من عقد.
فمنذ الانتخابات البرلمانية عام 2024، التي وصفتها المعارضة بأنها “مزورة”، تصاعدت موجات الاحتجاج ضد حزب “جورجيا دريم” الحاكم، الذي يُتهم بالانحراف عن المسار الأوروبي والتقارب مع روسيا.
وأثار قرار الحكومة الأخير تجميد محادثات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي حتى عام 2028 غضباً واسعاً في الأوساط الشعبية والسياسية، واعتبرته المعارضة "طعنة في وجه إرادة الشعب".
“جورجيا تُدار اليوم بذات الأسلوب الذي حاولنا الهروب منه عام 2003 خلال الثورة الوردية”،
قال غيورغي فاشادزه، زعيم أحد أحزاب المعارضة، في تصريح لوكالة Reuters.
القمع... وعودة الخطاب الروسي
منظمات حقوق الإنسان حذّرت من تدهور غير مسبوق في الحريات داخل البلاد.
تقرير صدر هذا الأسبوع عن منظمة العفو الدولية (Amnesty International) أكد أن الانتخابات “تجري في مناخٍ من الترهيب والعنف الممنهج ضد المعارضين والصحفيين”.
وسُجلت خلال الأشهر الماضية عشرات الاعتقالات في صفوف ناشطين وصحفيين وحقوقيين، ما دفع مراقبين إلى القول إن جورجيا “تسير بخطى ثابتة نحو نموذج روسي في إدارة الدولة والسيطرة على الإعلام والمجتمع المدني”.
رد الحكومة: “لن نسمح بالفوضى"
في المقابل، شدد رئيس الوزراء إراكلي غاريباشفيلي على أن الدولة “لن تسمح بانزلاق البلاد إلى الفوضى”، متهماً المعارضة بمحاولة “استنساخ سيناريوهات الثورات الملوّنة” بدعم من جهات خارجية.
“نحن نحمي القانون والدستور، ولن نسمح لأحد بتهديد استقرار جورجيا”،
قال غاريباشفيلي في مؤتمر صحفي عقد مساء اليوم.
وأضاف أن الانتخابات “تمضي بشكل طبيعي”، وأن التقارير عن قمع أو تزوير “مبالغ فيها وموجهة سياسياً”.
المجتمع الدولي يراقب
واشنطن وبروكسل تابعتا التطورات بقلقٍ متزايد.
المتحدث باسم الاتحاد الأوروبي دعا السلطات الجورجية إلى “احترام الحق في التظاهر السلمي والتحقيق في مزاعم استخدام القوة المفرطة”، فيما شددت وزارة الخارجية الأميركية على “أهمية إبقاء جورجيا على طريق الديمقراطية والشفافية”.
بلد على مفترق طرق
الأحداث الجارية اليوم تعيد إلى الأذهان التحولات السياسية التي شهدتها جورجيا منذ استقلالها عن الاتحاد السوفياتي قبل أكثر من ثلاثة عقود.
بين شرقٍ روسي النفوذ وغربٍ أوروبي الوعد، تقف تبليسي أمام اختبارٍ مصيري:
هل تختار طريق الانفتاح والديمقراطية، أم تنزلق إلى قبضة السلطوية التي تهدد بإطفاء وهج تجربتها الديمقراطية الناشئة؟
مع حلول الليل، عادت شوارع تبليسي إلى هدوءٍ نسبي، لكن جذوة الغضب لا تزال مشتعلة.
جورجيا اليوم لا تواجه فقط أزمة حكومة أو انتخابات، بل أزمة هوية ومسار — بين حلم أوروبا وواقع السلطة.