تُعيد أحداث غزة وحصارها وقصفها اللا إنساني هذه الأيام إلى الأذهان ما مرَّت به في تاريخها الطويل الذي شهد كثرة من الغزاة والفاتحين، فكل الأمم الطارئة التي قدمت إلى الشرق الأوسط من القديم والحديث، وفي القلب منه فلسطين، أدركت على الفور الأهمية التاريخية والجيوستراتيجية لمدينة غزة؛ فهي نقطة التلاقي بين أهم الأقطار الإسلامية مصر وبلاد الشام، وهي أيضا ملتقى الحضارات والأمم، بل وملتقى القارات بموقعها بين آسيا وأفريقيا. ولهذه الأسباب مجتمعة نرى في تاريخ القادة الكبار الذي قادوا المنطقة في ظل الإسلام منذ عمرو بن العاص وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وصلاح الدين الأيوبي وقُطز وبيبرس وقلاوون وأبنائه ثم العثمانيين حرصا لافتا على ضم غزة والسيطرة عليها، وهو ما ينطبق أيضا على الفرنسيين والإنجليز فيما بعد.
الطريق إلى غزة
من مشاهد التاريخ التي لا تُنسى حرص نابليون بونابرت، القائد الفرنسي العسكري الشهير الذي حاول بناء إمبراطورية فرنسية لا تقل قوة ونفوذا عن القوة العثمانية أو البريطانية الصاعدة في أواخر القرن الثامن عشر، على احتلال غزة وإخراج العثمانيين منها، لا سيَّما القائد الشهير أحمد باشا الجزَّار الذي كان يحكم عكَّا وكامل الأراضي الفلسطينية وجنوب بلاد الشام. لقد كان بناء إمبراطورية كبرى حلما يراود نابليون منذ ما قبل قيام الثورة الفرنسية في عام 1789م، وقد أُثر عنه أنه وضع بالفعل خطة لبناء هذه الإمبراطورية من خلال النزول إلى مصر أولا، ثم احتلال فلسطين ثم بلاد الشام والأناضول وإسقاط الدولة العثمانية، ثم المسير بقواته فاتحا لإسقاط كل القوى "الرجعية" التي كان يراها ضد المصالح الفرنسية في القارة الأوروبية مثل الإمبراطورية النمساوية ومن ثم دخول باريس فاتحا[1].
وبالفعل انطلقت الحملة الفرنسية على مصر بنزول قوات نابليون في يوليو/تموز 1798م إلى الإسكندرية، وبعد مقاومة شرسة من أهلها تقدم الفرنسيون بمحاذاة النيل جنوبا عبر الدلتا مرتكبين أكبر الجرائم في حق القرويين والفلاحين المصريين. ثم تمكنت هذه القوات المدججة بأحدث الأسلحة والمدافع، والمنضبطة عسكريا مقارنة بقوات المماليك سادة مصر تحت ظل العثمانيين آنذاك، من أن تقف تحت سفح الأهرام بكامل جهوزيتها، فانفجرت في وجه المماليك وقضت عليهم حينما أمر نابليون بـ"دقِّ طبوله، وإرسال بنادقه المتتالية والمدافع"[2]، كما يصف مؤرخ ذلك العصر الشيخ عبد الرحمن الجبرتي. وبعدما وطَّد نابليون الأمر في مصر وأخضعها له؛ راح يستعد للخطوة التالية في إستراتيجيته التي كان يطمح إليها، وهي الاستيلاء على فلسطين وسوريا، وكان يدرك أن غزة مفتاح مصر وفي الوقت عينه بوابة الشام على السواء. وفي هذا السياق أُثر عنه أنه قال: "إن غزة هي المخفر الأمامي لأفريقيا وباب آسيا". ولهذا السبب، في ربيع عام 1799م، وبعد أقل من عام على نزوله مصر، انطلق نابليون بقواته عبر صحراء سيناء قاصدا غزة الخاضعة حينها لولاية أحمد باشا الجزار والي فلسطين وجنوب الشام العثماني، وحينما نزل على أسوارها أرسل منشورا إلى سكانها كما فعل مع أهل مصر من قبل حين أوهمهم أنه جاء مسلما موحدا، وأنه يريد أن يرفع عن كاهل المصريين ظلم المماليك.
بأسلوب الخداع ذاته جاء في منشور نابليون بونابرت لأهل غزة قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين، من طرف بونابرته أمير الجيوش الفرنسية إلى كافة المفتين والعلماء وكافة أهالي نواحي غزة والرملة ويافا حفظهم الله، بعد السلام نعرِّفكم أننا حرَّرنا لكم هذه السطور لنعلمكم أننا حضرنا إلى هذا الطرف بقصد طرد المماليك وعسكر الجزَّار عنكم، وإلى أي سبب حضور عسكر الجزَّار وتعدِّيه على بلاد يافا وغزة التي كانت في حكمه؟ إلى أي سبب أرسل عسكره إلى قلعة العريش؟ بذلك هجم على أرض مصر، فلا شك كل مراده إجراء الحروب معنا، ونحن حضرنا لنحاربهم"[3].
تبدو ركاكة أسلوب المنشور واضحة، وقد كُتب على الأرجح بواسطة أحد المستشرقين الفرنسيين. وبعد أن أمَّن منشور نابليون الجميع على أرواحهم وأولادهم وأموالهم، واصل خداعه قائلا: "وقصدنا أن القُضاة لا يتركون وظائفهم، وأن دين الإسلام لا يزال معتزا ومعتبرا، والجوامع عامرة بالصلاة وزيارة المؤمنين، والذي يتظاهر لنا بالحب يفلح، والذي يتظاهر لنا بالغدر يهلك"[4]. وهكذا أبدى نابليون لعامة الناس في غزة ما كان يخفيه من إستراتيجيته طويلة الأمد التي جاء لتحقيقها، وهي إسقاط الدولة العثمانية، والحيلولة دون رجوع مصر إليها. لقد أدرك نابليون أن مَن يحتل مصر لن يكون في مأمن إلا إذا احتل سوريا وفلسطين، وقد جرَّأه على ذلك الضعف العام العسكري والحضاري الذي عانت منه الدولة العثمانية الحاكمة للمنطقة حينئذ، فكانت البلاد خالية من قوات عثمانية دفاعية قوية أسوة بما كان عليه الحال قبل ذلك بقرنين من الزمان. وكما ذكر في منشوره إلى أهل غزة فإن أحمد باشا الجزار لما رأى قدوم نابليون بقواته البالغ عددها 13 ألف مقاتل، سارع إلى مقاومته في منطقة متقدمة في العريش، ولكن هذا الجيش لم يوفق في صدِّ الحملة الفرنسية على فلسطين وتعرض للهزيمة في العريش في فبراير/شباط 1799م، مع سقوط مئات القتلى من الجانبين.
وقد أشار نابليون إلى هذه المعركة في مذكراته قائلا: "يممنا صبيحة اليوم التالي إلى غزة، فوجدنا ثلاثة آلاف خيَّال يسيرون في اتجاهنا، وكان على رأس خيالتنا الجنرال مِرات، وسار الجنرال كليبر في الجناح الأيسر، وساعد الجنرال لان فيلق الخيالة بكتيبة من المشاة، وحملنا على الأعداء حملة شعواء، فانكسروا فورا، وأخذوا يتقهقرون إلى الخلف"[5]. وأمام هزيمة قوات الجزار وضعف أسوار غزة، تمكن نابليون بقواته كثيرة العدد وجهوزيته بالعتاد المتقدم من دخول المدينة. ويذكر "محمد كرد علي" في "خطط الشام" أن "نابليون وجد في غزة عند احتلالها ذخيرة وشعيرا وأربعمائة قنطار بارود واثني عشر مدفعا وحاصلا كبيرا من الخيام وقنابل، فحاز الجميع"[6].
في أثناء مقامه في مدينة غزة، قضى نابليون على سورها وخرَّب معالمها الحضارية مثل البيمارستان (المستشفى) و"جامع الجاولي" و"مدرسة قايتباي" و"المدرسة الكمالية" و"جامع القلعة" و"زاوية الشيخ محمد أبي العزم"، وربما قصد من وراء ذلك تشتيت أكبر قدر ممكن من الأهالي لحماية ظهره أثناء انطلاقه صوب الرملة والقدس وعكا وبلاد الشام فيما بعد. حين أمَّن نابليون ظهره أمر على الفور بمغادرة غزة يوم 28 فبراير/شباط 1799م لاستكمال باقي غزوته، فنزل على مدينة الرملة وتمكن من احتلالها، وكذلك مدينة يافا بعد صراع شديد مع حاميتها العثمانية والعربية التي كانت تبلغ 12 ألف مقاتل، ولكنه سلَّط عليها مدافعه الثقيلة. وفي هذه المعركة سقط في يديه عدد كبير من الأسرى "وكان عددهم يزيد على ثلاثة آلاف حنق عليهم، وزعم أنهم لا يراعون ذمة، ولا يحترمون الشرف العسكري، فأمر جنوده بإطلاق النار عليهم"[7].
كتب نابليون في تقريره لحكومته في باريس عن هذه المعركة ومجزرته فيها قائلا: "إنه لم تتصور له فظائع الحرب من قبل مثلما ظهرت له في يافا"، الأمر الذي دفع الشيخ الدحداح فيما ترجمه عن تاريخ فرنسا، وكان من المتعاطفين مع الفرنسيين، أن يكتب قائلا: "إن شدَّة الحر وعتاد المحصورين أضرَّا بالفرنسيين وحمَّلاهم أثقالا شديدة؛ ولذلك لما دخلوا المدينة حدث فيها ما تقشعرُّ الأبدان من ذكره، فإن القتال الذي جرى في أسواق يافا كان قتالا لا يسوغ أن نسميه بشريا، فإن الشياطين لا تقدر أن تقوم بشرٍّ أعظم"[8].
عقب هذه المجزرة، وسيطرة نابليون وقواته على يافا، ظنَّ الجميعُ أن مقصده سيكون إلى القدس، إذ أمست الطريق إليها مفتوحة أمامه، لكنه أدرك أن القوة العسكرية العثمانية والعربية والمعاقل الحربية مثل القلاع والذخائر كلها كانت على الساحل الفلسطيني، وأن التوغل إلى الجنوب سيكون مخاطرة كبيرة. وبالفعل تقدَّم نابليون صوب ما يمكن اعتباره وقتذاك عاصمة فلسطين، ومركز السياسة والقوة العسكرية فيها مدينة عكَّا حتى بلغها في مارس/آذار 1799م، فحاصرها، وكان الجزار باشا وقواته مرابطين فيها، مستعدين بالمؤن والعتاد لنابليون وجيوشه. ولم تهدأ القوات الفرنسية طوال ستين يوما حاولت خلاها هدم سور المدينة الحصين أو مخامرة القوات العثمانية والعربية الحامية لأسوار وأبراج المدينة. وقد تتبع المؤرخون ردة فعل أهل فلسطين إزاء محاولات نابليون تحييدهم وإبعادهم عن المقاومة العثمانية، وهي محاولات باءت بفشل ذريع. لقد لبَّى الفلسطينيون نداء الجهاد ضد الغزاة الفرنسيين، على سبيل المثال يذكر الخالدي في كتابه "أهل العلم بين مصر وفلسطين" أن أحد أعيان أهل بيت المقدس، وهو القاضي الشيخ موسى الخالدي الذي درس في الأزهر وكان يشغل قاضي عسكر الأناضول وقتذاك في إسطنبول، أرسل إلى أهالي بيت المقدس وفلسطين عامة رسالة يحثُّهم فيها على مقاتلة نابليون ومواجهته، وإزاء مثل هذه الخطابات والفتاوى انصاع الناس للقاضي الخالدي، وشرع المقيمون في أعالي جبال فلسطين في هذه المواجهة، لا سيَّما في نواحي قاقون وعزون وجبال نابلس ومرج بني عامر[9].
لقد حاول هؤلاء السكان الفلسطينيون قطعَ الطريق على فرقة الجنرال الفرنسي كليبر التي كانت في طريقها إلى حيفا، فهاجموها وكبَّدوها ثلاثين قتيلا وعربة مدفع. وعاد المقاتلون من منطقة جبل نابلس فهاجموا الفِرق الفرنسية عند قرية طور زيتا، لكنهم اضطروا إلى الانسحاب أمام قصف المدافع الثقيلة، وكانت بعض الفرق الفرنسية في فترة حصار عكا قد أُرسلت لاحتلال الحصون والقلاع في الجليل كي تقطع الطريق على الإمدادات والمعونات من دمشق إلى عكا. وقد حضرت قوات عثمانية بقيادة عبد الله باشا والي الشام إلى الجليل، فالتقى الطرفان عند جبل طابور وقرية الفولة في مرج بني عامر، وفي القتال الذي جرى في أبريل/نيسان 1799م كاد جيش الجنرال كليبر أن يُهزم لولا أن نجده نابليون بسرعة، فهُزمت القوات العثمانية الأكثر عددا بفضل المدافع الفرنسية الأشد قوة وخطورة، وبفضل هذا النصر استولى نابليون على ذخائر ومؤن كثيرة، كما تمكن من احتلال مدن صفد وطبرية وجنين، وفيما بعد عادت قواته لمساندة القوات المحاصرة لعكا[10].
ولكن مع هذه المقاومة الشرسة من أهل فلسطين والشام، ومع ظهور الطاعون في جيش نابليون أمام أسوار عكا، حيث كان ينهش فيهم نهشا حتى سقط منهم عدة آلاف، بالإضافة إلى طول المقام الذي استمر لستين يوما رأى فيها مقاومة أهل عكا وجيشها؛ أدرك نابليون ألا مقام له في فلسطين، وأن مهمته شبه مستحيلة، وحينها أصدر قراره بالانسحاب والرجوع بقواته إلى مصر في مايو/أيار 1799م. وفي أثناء الانسحاب شرع أهالي الجبال في فلسطين مستغلين معرفتهم بالمنطقة بالهجوم على العساكر المنسحبة على طريق الساحل، كما تطوع أهالي جبال القدس ونابلس وغزة لمحاربة الفلول الفرنسية. وفي المقابل ردَّ الجيشُ الفرنسي على مناوشات المحاربين المحليين بإحراق قراهم وتدميرها، وفي هذه المناسبة نظَّم عالم القدس الشيخ "محمد بن بُدير" قصيدة طويلة في هزيمة نابليون في فلسطين أمام أسوار عكا، تتكون من 157 بيتا جاء فيها[11]:
الله أكبرُ دينُ الله قد نُصرا *** وأشرقَ النصرُ في الآفاق وانتشرا
وكان بفضل الله مُنتظرا ** بنصر أحمد باشا سيد الوزرا
الله أكبرُ ما عكَّا ووقعتُها *** إلا كوقعةِ بدرٍ زادها كبرا
وهكذا انتهت أحلام نابليون في فلسطين بعدما رأى من أهلها بسالة وقوة في مواجهته، كما انتهت أحلامه كلها أمام أسوار موسكو ومن بعدها ووترلو. ولقد رأينا كيف فكَّر نابليون تفكيرا إستراتيجيا حين وقف أمام غزة، وأدرك أهميتها المفتاحية بين قارتي آسيا وأفريقيا، وحين جرت عندها معركة شرسة قادها بنفسه أمام قوات الجزار باشا والي المنطقة، وهي واحدة من اللقطات الإستراتيجية التي تُبيِّن أهمية هذه المدينة في تاريخ العالم، بل وبين القوى العالمية المتصارعة. المصدر : الجزيرة