قتلتم خير من ركب المطايا ورحلها ومن ركب السفينا
ومن لبس النعال ومن حذاها ومن قرأ المثانى والمبينا
– أبو الأسود الدؤلى ناعيا الإمام
إن سيرة الإمام علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- جديرة بأن تُفرد لها الصفحات تلو الصفحات عن عظمته وكفاحه وإيمانه وإنسانيته، لكنني سأحدد كلماتي تلك عن ليلة مقتله -كرَّم الله وجهه-؛ ولا أريد بذلك أن أتطرق إلى الغريب من الروايات فلست على كل حال مولعًا بالحديث في الروايات عن غريبها، وإن كان الحديث عن الغريب ليس من الشيء الذي لا يحمد عقباه، إنني لا أريد من الحديث عن تلك الليلة إلا شحذ الهمم للتفكير في تاريخنا والدخول إليه من الباب الذي لا بد أن ندخل منه، وهو باب النظر والتحليل والتعليل، ولست في الكلمات القليلة القادمة أقر رأيًا وأتعصب له غير مقتنع بغيره من آراء؛ إنما هي محاولة مني في أن أفكر ويفكر القارئ معي في أحداث ليلة من أهم ليالي الإسلام؛ حيث هوى فيها جسد شخصية من أعظم شخصيات تاريخنا الإنساني والديني والسياسي والاجتماعي.
لقد كان الإمام في ليلة مقتله هادئًا مطمئنًا إلى مصيره، ذلك المصير الذي ما فكر فيه الإمام يومًا بأنه سيكون على هذا الحال من الشقاء والعنت، لقد جاهد في تاريخ الإسلام جهادًا عظيمًا، إن جهاده يمر في هذه اللحظات أمام عينيه: وُلدت على الإسلام، ونمت في فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرته العظمى وسيوف المتربصين تحيط بي، ما غمد لي سيف في بدر وأُحُد والخندق وخيبر، في كل مشهد من مشاهد الإسلام كنت حاضرًا لا أخاف الموت، أثرت كلمة الإسلام ومجده على عظمتي، بل على وجودي وشخصي؛ فبايعت الصديق وعمر وعثمان خشية أن تفترق كلمة المسلمين، وأن توهن دعائم استقرار دولة الإسلام، ولما حانت اللحظة أن يُبايع لي تفرق الناس عني وحملوا سيوفهم ضدي كل منهم يريد مجده وفخاره غير عابئ بمكانتي وتاريخي، حاولت عبثًا أن أجمع كلمتهم على كلمة الإسلام الأولى المستمدة من وحي محمد صلى الله عليه وسلم وسنته، لكن كل ذلك ذهب حيث تذهب كل كلمة حرة صدى في الهواء.
إن ثلاثة من الخوارج اتفقوا على مقتل عليّ بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص؛ ظنًّا منهم أنهم أساس المِحَن التي تعيشها الأمة فإن قتلوهم فقد أراحوا الأمة من شرور كثيرة
لم ينم عليّ تلك الليلة، وإنه لم يزل يمشي بين الباب والحجرة وهو يقول: (والله ما كذبت ولا كذبت وأنها الليلة التي وعدت) ثم يمسك بلحيته ويتكلم معها ويقول لها وللحاضرين: (ما يمنع أشقاكم أن يخضب هذه من هذه) واثق عليّ من نفسه فيصف قاتله بأنه أشقى الناس، ثم كأنه يتحداه ما الذي يمنعه أن يمسك برأسي فيجعل الدم يسيل على لحيتي؟ إن قتل الإمام ليس بالشيء الهين، إنه رمق أخير من روح طاهرة حاولت أن تملأ الأرض عدلًا، وأن تقيم ما اعْوَجَّ من الدين الذي دفع فيه عليّ كل نَفَس من حياته ليقيمه ويبني صرحه ويشيد بناءه. كان عليّ كلما رأى قاتله عبد الرحمن بن ملجم يقول: أريد حياته ويريد قتلي، كان يريد حياة الناس جميعًا، يريد أن تكون حياتهم يملؤها العدل والمساواة؛ لا يفرق فيها بين غني وفقير أو قريب وبعيد.
في الأيام الأخيرة للإمام عليّ كان موقفه السياسي مضطربا للغاية، كان قد ملّ جنده ويئس منهم، فهو دائمًا يدعوهم إلى جهاد أهل الشام ولا يسمعون إليه، وأهل الشام يغيرون على أطراف العراق مقر خلافة الإمام، ويغيرون على اليمن بقيادة بسر بن أبي أرطأة ويقتلون ولدين لعبيد الله بن عباس، وكانوا قد استولوا على مصر وأصبحت مصر إمارة لأهل الشام وتحت قيادة معاوية بن أبي سفيان، كل ذلك وأهل العراق لا يحركون ساكنًا للدفاع عن عراقهم ولا للدفاع عن إمامهم.
تقول لنا الرواية الأكثر شهرة بل قد تكون هي الرواية الوحيدة التي تروي لنا مقتل الإمام عليّ: إن ثلاثة من الخوارج اتفقوا على مقتل عليّ بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص؛ ظنًّا منهم أنهم أساس المِحَن التي تعيشها الأمة فإن قتلوهم فقد أراحوا الأمة من شرور كثيرة، وتواعد هؤلاء الثلاثة على يومٍ بعينه يقتلونهم فيه لحظة خروجهم للصلاة، قتل عبد الرحمن بن ملجم عليَّ بن أبي طالب ونجا معاوية بن أبي سفيان من البرك بن عبد الله وقتل عمرو بن بكر خارجة بن حذافة بدلًا من عمرو بن العاص.
نعلم تمام العلم أن كل كتب السير والتاريخ قد ذكرت هذه الرواية وإن اختلفوا أحيانًا في الصيغة، بل ذكرتها أيضًا كل كتب الشيعة، فالمسعودي واليعقوبي وهما أقدم مؤرخي الشيعة قد ذكراها في تاريخهما، لكن هذا التأكيد على تلك الرواية يجعلنا لا نطمئن إليها ولا نستسيغها، ولا أقول إنها أشبه بالمسرحية كما قال بذلك المؤرخ الكبير فيليب حتى عند تأريخه لهذه المأساة، فلفظ المسرحية لفظ رقيق لا ينبغي أن نستخدمه في كتابة فصل من أهم فصول التاريخ الإسلامي على الإطلاق.